الاثنين، 23 مارس 2015

لي كوان يو: حكاية فرد صنع تاريخ دولة .... وفاة صانع معجزة سنغافورة الاقتصادية

7

                               لي كوان يو: حكاية فرد صنع تاريخ دولة 

أعلنت الحكومة في سنغافورة وفاة لي كوان يو، أول رئيس وزراء للبلاد وأحد الذين حولوا سنغافورة إلى مركز اقتصادي مهم في آسيا خلال العقود الثلاثة الماضية.
وقال نجله، لي هسين لونغ، الذي يشغل منصب رئيس الوزراء حاليا في بيان إن “لي توفي بدون آلام في المستشفى العام في سنغافورة” في الساعات الأولى من يوم الاثنين.
وكان لي كوان يو أول رئيس حكومة في سنغافورة منذ عام 1959 بعد تخلص بلاده من الوصاية البريطانية وظل في منصبه حتى عام 1990.
وعرفت سنغافورة في عهده تطورا اقتصاديا مهما حيث أصبحت أحد “النمور الآسيويين”.
وكان لي كوان يو قد نقل إلى المستشفى في الخامس من شباط بعد إصابته بالتهاب رئوي حاد، وأعلنت الحكومة الأسبوع الماضي أن حالته تدهورت كثيرا
لي كوان يو: حكاية فرد صنع تاريخ دولة
مؤسس سنغافورة الحديثة وباني نهضتهاِِ 
قد يظن البعض ان الشعوب (باعتبارها مجموعة أشخاص تعيش على أرض محددة) وحدها تصنع تاريخ الدول، وقد يظن البعض الآخر أن اسم البلد يوضع على خريطة العالم الاقتصادية منذ اللحظة الاولى لولادته. غير ان لهذا الواقع استثناءات، ان لم نقل صورة مقابلة. فلطالما ولدت دول دون أن تؤثر على الاقتصاد العالمي ‘بشعرة’، ولطالما صنع فرد واحد تاريخ شعب ودولة معا. هذه الصورة المقابلة (أو الوجه الآخر في المرآة، ان صح التعبير) يجسدها لي كوان يو. هذا ‘الثمانيني’، الذي ارتبطت باسمه عبارة ‘مؤسس سنغافورة الحديثة وقائد التنمية الاقتصادية في بلاده’، سيحل ضيفا على الكويت ليلقي كلمة في الندوة العالمية السنوية التي ينظمها بنك الكويت الوطني في 18 نوفمبر الجاري تحت عنوان ‘آسيا والخليج العربي… نحو ازدهار دائم’، برعاية سمو رئيس مجلس الوزراء الشيخ ناصر المحمد في مقر الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي. فمن هو ‘لي كوان يو’ الذي يأتي من أبعد أصقاع الارض ليروي قصة نجاح ويرتوي مستمعوه من تجربته؟
ولد لي كوان يو في 16 سبتمبر عام 1923، وأصبح أول رئيس وزراء للجمهورية السنغافورية في عام 1959 بعد انتخابات برلمانية فاز فيها حزب العمل الشعبي الذي أسسه عام ،1954 وبقي في منصبه، الذي تولاه في سن ال35 سنة، حتى عام ،1990 بدأ حياته شيوعيا متزمتا وأنهاها نموذجا تاريخيا في التنمية. لم يتنازل عن فاصلة واحدة من تراث بلاده الاجتماعي. فأثار ازمة سياسية كبرى مع الولايات المتحدة لأن مراهقا اميركيا لطخ نظافة المدينة بالدهان. لكن هذا التمسك بالمبادئ والميراث والعادات لم يتعارض لحظة واحدة مع استخدام الحداثة من اجل الكفاية والضمان الاجتماعي والتقدم والنمو. وكانت النتيجة سنغافورة المعاصرة التي ارتبط اسمها باسم لي كوان يو ‘الديكتاتور الرشيد’.
الباني وطنا للناس
كان من المذهل اقامة مثل سنغافورة الحالية في فقر آسيا قبل اربعة عقود. غير ان لي كوان يو الذي جاء من اوكسفورد الى المستعمرة البريطانية السابقة، كان يحلم بأن يبني وطنا للناس وليس له. لذلك بنى المصانع لا الاذاعات. وامر الناس بالعمل لا بالاصغاء الى الاذاعة. ومنع التجمع الا للصلاة. واغلق السجون ليفتح المدارس. واقام في آسيا نموذجا مناقضا لكتاب ماو تسي تونغ وثوراته الثقافية. ولم يسمح للمذابح لدى الجارة الاندونيسية بالتسرب الى بلاده. وطبق حكم القانون، لكنه لم يحول بلاده الى سجن تطعم فيه الفئران كوجبات دسمة، كما لدى جارته بورما.
ويعتبر لي كوان يو خليطا سحريا من اداب الماضي وآفاق المستقبل. وكان قبل اي شيء حريصا على الكرامة البشرية، فحارب الفقر بالدرجة التي عارض فيها نفوذ اميركا. وجعل لكل مواطن بيتا بدل ان يكون لكل الف مواطن كوخ. اذ كانت تلك الجزيرة، التي أسسها السير ستامفورد رافلز عام 1819، مجرد قرية للصيادين تخلو من أي موارد طبيعية وفيها قاعدتان عسكريتان، ويسكنها خليط من المهاجرين غالبيتهم أتوا من الصين والباقي من ماليزيا والهند مع أقليات آسيوية أخرى. وبعد أن رحل المستعمرون من منطقة جنوب شرق آسيا خلفوا وراءهم فوضى عارمة، فكان على سنغافورة أن تواجه وحدها مخاطر التمدد الشيوعي في جميع أرجاء العالم، خصوصا أنها دولة فقيرة قريبة من الدب الروسي. ولم تجد سنغافورة حلا لهذه المعضلة سوى الانضمام إلى اتحاد الملايو عام 1963 الذي يشكل ما يعرف الآن بماليزيا. الا ان هذا الاندماج لم يصمد أكثر من عامين بسبب إصرار سكان الملايو المسلمين على احتواء سنغافورة من دون مراعاة وجود الغالبية الصينية البوذية فيها. وبعد أقل من عام على الانضمام، حدثت صدامات عرقية بين الصينيين والملاويين كانت كفيلة بخروج سنغافورة نهائيا من اتحاد الملايو في 9 أغسطس 1965 وهو نفسه تاريخ استقلال سنغافورة.
الوحدة والتحدي
ويقول لي كوان يو في كتاب سيرته الذاتية عن تلك المرحلة: ‘بعد الانفصال مباشرة توليت منصب رئيس الحكومة، وكل شيء حولي ينذر بالانهيار، فنسبة البطالة تقارب 15% والدولة الجديدة تكاد تخلو من كل شيء: القوة العسكرية مؤلفة من كتيبتين ماليزيتين، البنية التحتية متخلفة للغاية، قوات الشرطة لا وجود لها من الناحية العملية، المدارس والجامعات لا تفي بالحاجة، الغليان العنصري والديني يهدد بالانفجار في أي لحظة، التهديد الخارجي لم يتوقف، وكانت ماليزيا تنتظر فشلنا على أحر من الجمر لتستخدم القوة في إعادة سنغافورة إلى حظيرة الملايو’.
وكانت عملية بناء الجيش وقوات الشرطة من أشد الأولويات التي فرضت نفسها على حكومة لي كوان يو. وعزز وجود بعض القوات البريطانية الرمزية في سنغافورة روح التفاؤل بالقدرة على الصمود في تلك الرحلة الحرجة. ولكن ما لبثت بريطانيا أن أعلنت عن نيتها سحب جميع قواتها من المنطقة بعد تراجع دورها في العالم تدريجيا. فخسرت سنغافورة الكثير بسبب هذا القرار لأن وجود القوات البريطانية كان يوفر 30 ألف فرصة عمل أي ما يعادل 20% من الناتج القومي الإجمالي، كما وجدت نفسها مضطرة إلى التعجيل في تنفيذ برامج التسليح المكلفة.
الأخطاء دروس
بعد الرحيل النهائي للقوات البريطانية من سنغافورة، يشرح لي كوان يو الإجراءات التي اتخذت لمواجهة المرحلة الجديدة: ‘لم يكن أمامنا إلا أن نبدأ بالسياحة، ما أدى إلى نجاح جزئي لكنه غير كاف للقضاء على البطالة. فكان من الطبيعي ألا تقتصر خططنا على جانب واحد من الاقتصاد، لذا شجعنا على بناء المصانع الصغيرة، خصوصا مصانع تجميع المنتجات الأجنبية على أمل أن نبدأ بتصنيع بعض قطعها محليا، وعرفنا الكثير من الفشل سواء لنقص الخبرة أو لعدم الحصول على الاستشارات الصحيحة. وكلفنا ذلك الفشل غاليا لكننا استفدنا من الدروس المكتسبة وعملنا لئلا نقع في الخطأ مرتين’. ويضيف كوان يو نقطة مهمة: ‘اخترنا دائما الفرد أو العنصر الأفضل لأي مهمة أو واجب، مهما كانت انتماءاته أو أصله أو دينه، كنا نهتم بالنتيجة فقط وكنا نعلم تماما أن فشلنا يعني حروبا أهلية واندثار حلم’. وبعد انسحاب آخر جندي بريطاني، تمكنت حكومة لي كوان يو من استعادة جميع القواعد والأراضي والمباني التي كانت تعود الى البريطانيين واستغلالها بصورة مربحة، كما تمكنت من تقليص البطالة إلى حدودها الدنيا مع نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي. ومن بين أهم إنجازات تلك الفترة بناء مدينة جورونغ الصناعية على مساحة 9 ألاف فدان لجذب الاستثمارات الأجنبية. وفي فترة قصيرة، وثبت سنغافورة وثبتها الكبرى باستغلال موقعها الجغرافي المتوسط بين اليابان وأوروبا واندماجها الكامل في الاقتصاد الدولي وبعدها عن نقاط التوتر في قارة آسيا، فأصبحت تستقبل 70 % من تجارة الحاويات في العالم كما تحولت الى واحدة من أهم المراكز المالية.
دور دولي
مع أن حلبة ‘لي كوان يو’ المحلية كانت ضيقة المساحة، إلا أن ما تمتع به من نشاط وحيوية ضمن له ميدانا رحبا وموقعا مؤثرا على ساحة الشؤون الدولية. واستطاع الإبحار بمهارة وسط موجات المد المتقلب التي اكتسحت العلاقات بين أميركا والصين وتايوان، ليلعب دور المستشار الموثوق حينا، وأداة الاختبار لصوابية الأفكار والآراء حينا آخر، والرسول المبلغ في كثير من الأحيان.
وقبل تحقيقه نقلا سلميا لمقاليد الحكم إلى جيل القادة الشباب عام 1990، حول لي كوان يو حكومته عام 1989 الى أول حكومة الكترونية في العالم. وبقي نائبا لرئيس مجلس الوزراء من عام 1990 حتى 2004 حين أصبح وزيرا موجها واستشاريا لحكومة ابنه لي هسيان لونغ (54 عاما). كما يلعب اليوم دور المستشار غير الرسمي للحكومة الصينية. ولا يزال لي كوان يو يقود بلاده ويدعو الى العلم، ‘لكن التحدي الأكبر هو حماية القيم التي نقدر. فالعلاقة البشرية الاساسية، بين الآباء والابناء، بين الاصدقاء والرفاق، بين المواطن والحكومة، هي حقيقة غير قابلة للتغيير’، حسب تعبيره.
واضع تفاصيل حياة السنغافوريين
لا يوجد شيء في سنغافورة لم يلحظه بصر لي كوان يو الثاقب أو ترقبه عيناه المتيقظتان: بدءا من اختيار النباتات لتحويل سنغافورة إلى واحة خضراء، مرورا بتجديد فندق رافلز الرومانسي، وانتهاء بحث الشباب، بشكل سافر وصريح وجريء، على الزواج من فتيات في مستواهم الثقافي نفسه. وتحمل سنغافورة النظيفة بصمة لي كوان يو الواضحة، ولا يعتذر عن تأثيره النافذ في بلاده: ‘إذا كانت سنغافورة دولة مربية، فأنا فخور برعايتها وتنشئتها’. واختار لي كوان يو اللون الابيض للباس حزب العمل الشعبي الحاكم. وسأله مرة أحد الصحافيين عن سبب اختيار هذا اللون، فأجابه ‘هذه الملابس ترمز الى الشفافية والنظافة’.
أوسمة بالجملة
حصد لي كوان يو عددا كبيرا من الاوسمة تقديرا لعطاءاته في مجال الاقتصاد العالمي. ومن الاوسمة التي حصل عليها وسام شروق الشمس عام 1967 ووسام مرافقي الشرف عام 1970 ووسام حرية المدينة في لندن عام 1982 ووسام الصف الاول لتاج جوهور عام 1984 ووسام القائد العظيم عام ،1988 وفي عام 2002، قبل رسميا ضمن أعضاء المعهد الإمبراطوري في لندن اعترافا لما قدمه من دعم للتجارة والصناعة العالمية ومبادرات تطوير العلوم والدراسات الهندسية مع المملكة المتحدة. كما حصل على أوسمة أخرى تشمل أعلى درجة عضوية شرفية في معهد إيدنبورغ الملكي للطب عام 1988 ووسام رجل السلام في عام 1990
من أقواله
– عن الديموقراطية: ‘لا اعتقد أن طريق الديموقراطية تؤدي إلى التنمية، بل أرى أن البلد يحتاج إلى النظام أكثر من حاجته إلى الديموقراطية’.
– عن تأثير العلم في اقتصاد الدول: ‘التعليم هو أحد الدعائم الرئيسية لاقتصاد أي دولة، وكلما ازداد عدد المتعلمين قل حجم البطالة، وعلى الرغم من ارتفاع نسب البطالة في بعض البلدان التي تمتلك نسبة كبيرة من المتعلمين، فإن ذلك لا ينفي هذه القاعدة، حيث ان الوظائف التي نفتقر اليها، هي وظائف صغيرة وغالبا ما تحل التكنولوجيا الحديثة محلها’.
– عن الليبرالية الاقتصادية: ‘ليس من الضرورة أن يرافق الاصلاح السياسي تحويل الاقتصاد الى المفهوم الليبرالي. لا أؤمن بأن الليبرالي المليء بالآراء المختلفة والافكار المالية سينجح على الاطلاق’.
– عن الصناعة: ‘في نهاية النهار، لدينا أزرار كثيرة في آلاتنا الالكترونية. لكن السؤال هو: هل هذه الأزرار أفضل من تقنيات منافسينا’.
– عن حد النسل: ‘علينا تشجيع من يتقاضى راتبا أقل من 200 دولار شهريا ولا يستطيع تعليم اولاده على ألا ينجب أكثر من طفلين، لأننا سنندم على الوقت الذي أضعناه اذا لم نخط خطوة أولى نحو حد النسل في مجتمعنا المثقف’.
– عن الشرق الاوسط: ‘النجاح الذي يشهده الشرق الأوسط هو ثمرة للسياسات الاقتصادية السليمة، مما أدى إلى توازن اقتصادي يمكن رؤيته بوضوح في مدينة دبي التي تحتل مركز الريادة في المنطقة’.
بين التوريث السياسي والتحديث الاقتصادي
جمع المسرح الداخلي في سنغافورة بين الديموقراطية الانتخابية والدكتاتورية الشرعية، بين الحزب الحاكم باسم الأغلبية الصينية وبين المعارضة الشكلية باسم الأقليات القومية والدينية. وكرس النموذج السنغافوري النظام الأبوي أو الوراثة السياسية. فالنظام الأبوي في الدولة التي تحمل اسم مدينة الأسد SINGA بدأ بالدور التأسيسي الذي لعبه لي كوان يو وبالإدارة الصارمة لعملية التطوير والتحديث والتجديد التي أشرف عليها. وزمن حكم خليفته ومرشحه جوه شوك تونغ بعد 3 عقود، كان يترجم نفوذه في اتجاهين: الأول بالإشراف الأبوي على سياسة البلاد في خطوطها الرئيسية والعامة دون الخوض في التفاصيل، والثاني بالعمل على إعداد ابنه لي لونغ للمرحلة الثانية عبر الممارسة والتجربة في مواقع حكومية مهمة كمحافظ البنك المركزي ووزارة المالية حتى حان الوقت ونضجت الظروف لاستلام السلطة، قانونيا وشرعيا وحزبيا، معلنا عزمه على السير في طريق التطوير جامعا في نموذج آسيوي لافت بين التوريث السياسي والتحديث الاقتصادي.
قالوا عنه:
الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب: ‘لي كوان يو من الشخصيات اللامعة التي لم يسبق أن تعرفت على مثلها. فالمهتمون بسيرة هذا الآسيوي الناجح، عليهم أن يقرأوا قصة سنغافورة’.
رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر: ‘قرأت وحللت كل خطاباته، لقد استطاع أن يخترق أساليب البروباغندا الاعلامية دون أن يخطئ مرة قط’.
الرئيس الفرنسي جاك شيراك: ‘غريب أمر سنغافورة التي تحولت خلال 30 عاما الى بلد راق. من يرد معرفة سر نجاح هذا البلد الآسيوي فعليه النظر الى لي كوان يو الذي حول المدينة الى دولة، وجمع حوله العقول اللامعة، ووصلت سنغافورة الى التقدم عبر طريق مختصر مثل الاهتمام بالنظام التعليمي ومحاربة البطالة والادخار’.
الرئيس الكوري الجنوبي كيم داي جونغ: ‘كلما قابلت لي كوان يو، تأثرت تأثرا بالغا بذكائه الكبير ورؤيته الثاقبة وعمق فهمه للتاريخ والمجتمع. وبغض النظر عن موقعك في السياسة، ستجد أفكاره الحاذقة حول اسيا والعالم تشكل مصدرا للوحي الاقتصادي’.
سنغافورة: صنع في لي كوان يو
مدخول الفرد السنوي قفز من 435 دولارا إلى 22 ألف دولار
لا تقرأ جدولا او احصاء الا وتجد اسم سنغافورة في المراتب الأولى. اذا كان الجدول عن النمو، برزت فورا سنغافورة. واذا كان عن الازدهار احتلت تلقائيا الصفوف الأولى. واذا كان تقديرا للمستقبل، حلت سنغافورة في الاوائل. فسنغافورة من اكثر بلدان الارض امنا ومن اكثرها اطمئنانا كما هي نموذج في المحافظة على البيئة ومثال في المحافظة على مستوى المعيشة. انها تتقدم الآخرين في كل شيء. والفارق بينها وبين محيطها المباشر او الأقرب او الأبعد، كالفارق بين ‘بورصة نيويورك’ و’بورصة الخرطوم’. وعندما تبحث عن سر نجاح هذا البلد الآسيوي، تقرأ في كل سطر من سطور تاريخه اسم ‘لي كوان يو’. فلا تعرف ان كان السر في هذا الرجل الخارق ام في الشعب الذي تحول كل فرد فيه الى مسؤول. أم ان السر هو في حجم سنغافورة الذي يمكن الدولة من ضبط كل شيء ومراقبة الأمن بالعيون الالكترونية من دون الحاجة الى شرطي واحد. لكن النتيجة هي الأهم. اذ تمكن لي كوان يو في 31 عاما من تحويل الجزيرة النائية إلى أهم مركز تجاري ومالي في العالم. وبفضل سياساته الحكيمة، أصبحت سنغافورة من كبرى الأسواق المالية التي تضم أكثر من 700 مؤسسة اجنبية و60 مصرفا تجاريا إضافة الى بورصة مزدهرة لتبادل العملات الصعبة بحجم 60 مليار دولار.
وتقول كونا في تقرير عن سنغافورة أن الأخيرة حققت بفضل هذه السياسات نجاحا ونموا هائلين في اقتصادها ومعالجة مشكلاتها المستعصية، وتضاعف الناتج المحلي الاجمالي 40 مرة وقفز من 2.1 مليار دولار عام 1960 إلى 86.8 مليار دولار عام ،2002 كما قفز حجم الاستثمارات الاجنبية من 5.4 مليارات دولار في ستينات القرن الماضي إلى 109 مليارات دولار عام .2005
نصيب الفرد
كما ارتفع نصيب الفرد من هذا الناتج ليصبح من اعلى المعدلات في العالم ويصل الى 22 ألف دولار سنويا مقارنة ب 435 دولارا فقط عام ،1960 ووضع كوان يو نصب عينيه تحويل بلاده من جزيرة متهالكة يسكنها الفقراء وتعاني من تدني مستوى التعليم وارتفاع معدلات البطالة وتنعدم فيها الموارد الطبيعية الى دولة حديثة. فأخرج بلاده من محنتها باتباع سياسات اقتصادية حازمة، وغرس قيم الاحساس بالواجب والجدية بالعمل والتسامح الديني في نفوس مواطنيه ومحاربة التسيب والمخدرات التي كانت متفشية بشكل كبير. فأنشأ ‘مجلس التنمية الاقتصادية’، وأعطى الجهاز الحكومي صلاحيات واسعة لتطبيق ومتابعة وتطوير الاقتصاد السنغافوري وتشجيع الصناعات المحلية.
سوق المال والصناعة
وفي عام 2004، اختار الملتقى الاقتصادي العالمي سنغافورة ضمن العشرة الاوائل لأكثر أسواق المال العالمية تقدما بسبب المناخ الاستثماري والنظم السارية والتطور الكبير الذي تشهده. ومن أبرز شركائها التجاريين الولايات المتحدة واليابان وماليزيا والصين والمانيا وتايوان وهونغ كونغ.
واستوعبت سنغافورة في زمن قياسي كل متطلبات العصر، وأضحت واحدة من أغنى أغنياء بلدان آسيا والعالم، في حين قفز سكانها من 150 الف شخص عام 1819 إلى 3.7 ملايين نسمة حاليا. ويتغذى الاقتصاد السنغافوري على الصناعات المحلية. اما الاراضي الزراعية فتشكل أقل من 10 % فقط من اجمالي مساحة الدولة البالغة 648 كيلومترا مربعا.
ركائز مايكرو – اقتصادية
الى ذلك، تعتبر الركائز المايكرو-اقتصادية والاستقرار السياسي ومصداقية إطار العمل القانوني والقضائي بالإضافة إلى الجودة العالية للإشراف على الحقل المالي عوامل أدت إلى إيجاد بيئة مواتية لأنشطة تدبير الثروة في سنغافورة. كما أن هذه الدولة الآسيوية تمتلك تجربة عميقة في الاستثمار. ففي عام 2003، نمت الأرصدة المسيرة بواسطة المؤسسات الموجودة فيها بنسبة 35% لتصل إلى 465.2 مليار دولار سنغافوري.
وتعتبر سنغافورة حاليا من اكبر مصدري اسطوانات الكمبيوتر في العالم وواحدة من اهم مراكز صيانة السفن. كما تقدم خدمات مالية لمعظم بلدان المنطقة ما يشكل 27 % من دخلها القومي. وتملك مؤسسات اعلامية متقدمة: 9 اذاعات و3 شبكات تلفزيون و8 صحف محلية تخضع لرقابة شديدة وصارمة من السلطات المحلية.
أعراق مختلفة
وتتألف البلاد من مجموعة جزر صغيرة متناثرة. أما جزيرة سنغافورة فتنفصل عن ماليزيا بمضيق ‘جوهر’ عند الشمال. ويعتبر سكانها خليطا من أصول مختلفة (75% من أصول صينية و14% ماليزية و9% من الباكستانيين والهنود ثم أندونيسيون). وتنتشر بين سكانها اللغة الصينية واللغة الماليزية العامية. وتعتبر الإنكليزية لغة أساسية. كما يعتنق 15 % من سكان سنغافورة الاسلام أما البقية فيعتنقون البوذية والكنفوشية والطوطمية والمسيحية.
كتاب ‘قصة سنغافورة’ من جزأين
كتب لي كوان يو مذكراته وقصة سنغافورة في جزأين: عنوان الجزء الأول ‘قصة سنغافورة’، ويروي تاريخ نشوء البلاد حتى انفصالها عن ماليزيا في عام ،1965 أما الجزء الثاني ‘من العالم الثالث إلى الأول’ يحكي عن تجربة لي كوان يو في الحكم وأسلوب عمله لتحويل سنغافورة من بلد فقير الى دولة متقدمة
· من القاع إلى القمة..
ويعد ” لي كوان يو” أول رئيس وزراء لسنغافورة، وهو الذي قاد مسيرتها نحو الاستقلال وترأس حكومتها لأكثر من ثلاثة عقود من عام 1959 إلى 1992. ويعرف “لي ” على نطاق واسع بصانع معجزة سنغافورة التنموية وارتقائها من بلد نام في العالم الثالث، على حد تعبيره، إلى مصاف الأمم المتحضرة في العالم الأول. وفي ظل قيادته، تحولت سنغافورة إلى أنشط ميناء بحري في العالم، وثالث أكبر موقع لتكرير النفط ومركزاً عالمياً رئيسياً للصناعات التحويلية والخدمات، ليرتفع بذلك المتوسط السنوي لدخل الفرد الحقيقي فيها من أقل من 000,1 دولار أمريكي لدى حصولها على الاستقلال إلى قرابة 000,30 دولار اليوم.
وتمثل رحلة الصعود ” المذهلة ” لسنغافورة واحدة من معجزات القرن الماضي. فعند استقلال سنغافورة في مطلع الخمسينيات كانت عائدات القاعدة العسكرية البريطانية تمثل ثلاثة أرباع دخلها القومي مما عزز التشاؤم حول قدرة الدولة الصغيرة على النمو بمفردها والدخول الى مصاف الدول المعترف بها .
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه دوما والذي سوف يجيب عليه “لي كوان يو” في ندوة البنك الوطني بالكويت” هو كيف استطاعت سنغافورة تحقيق كل هذه الإنجازات ؟ وكيف ضمنت هذه الدولة الاستمرارية في عالم متقلب وفي واحدة من أسخن مناطق العالم سياسيا واكثرها تقلبا من الناحية الاقتصادية.
· بناء الإنسان والاهتمام بالتعليم في المقدمة..
إن الاسس التى اعتمدت عليها سنغافورة في تحقيق معجزتها اعتمدت اصلا على بناء الانسان وقبله الاعتماد على القيم الحضارية والتاريخ والتقاليد ومن ثم الانطلاق الى الاخذ بمقومات بناء دولة حديثة لا تعرف حدودا للتطور.
إن ثمة مجموعة اسس يمكن الاعتماد عليها في توضيح هذه المعجزة اولها تبني نظام حازم لتحديد النسل حيث لم تتجاوز نسبة زيادة السكان 1.9% في 1970 و1.2% في 1980، مما جنب البلاد كارثة الانفجار السكاني التي تمثل عائقا مخيفا للتنمية.
لكن ما إن اصبح الاقتصاد السنغافوري في حاجة إلى مزيد من الأيدي العاملة المؤهلة حتى غيرت الدولة سياستها السكانية في الاتجاه المعاكس باعتماد برنامج جديد يهدف لتحفيز المواطنين لزيادة النسل، خصصت له ميزانية تقد بـ 300 مليون دولار. وهذا التغير في السياسة السكانية ناتج عن أن كل مولود جديد في مرحلة التخلف يعني عبئا على الاقتصاد، بينما في مرحلة النمو و التقدم ومع توفر الخدمات التعليمية و الصحية اللازمة للأطفال فان ذلك يجعل منهم ثروة بشرية تدفع بدورها عجلة الاقتصاد إلى الأمام.
أما الاساس الاهم فارتكز الى سياسة تعميم التعليم وتحديثة باعتماد أفضل المناهج في العالم حيث تتصدر سنغافورة الأولمبياد الدولي في امتحانات المواد العلمية، بينما لم تستطع دولة عربية واحدة أن تكون من ضمن الـ 30 دولة الأولى في آخر النتائج المنشورة للتقييم الدولي للتقدم التعليمي في مادة الرياضيات على سبيل المثال .
واعتمدت المعجزة السنغافورية على اساس اخر لا يقل اهمية عن الاول والثاني حيث اعتمدت على بيروقراطية صغيرة الحجم ذات كفاءة عالية (قوامها حوالي 50 ألف موظف لا اكثر) وعلى درجة كبيرة من المهنية والتعليم والثقافة.
كما تم الاعتماد على اسس وظيفية تمثل نموذجا يمكن ان يدرس، من بينها ان التعيين في مختلف الوظائف يتم عبر مناظرات عامة مفتوحة للجميع بينما يحصل موظفو القطاع العام على رواتب تنافسية مثل القطاع الخاص إن لم يكن أعلى (200 ألف دولار راتباً سنوياً للوزير كمثال) الى جانب الشفافية وانخفاض نسبة الفساد الاداري والمالي الى حد ان سنغافورة تتصدر حاليا مؤشر الشفافية الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية.
وكان لي كوان يو المعروف عالميا بصانع معجزة سنغافورة الاقتصادية قد بدأ كلامه عن: (حياة البلدان التي تشبه حياة الإنسان، فـيها الحلو والمر، والماضي والحاضر والتخطيط للمستقبل).
ويتابع: (لا يدوم شيء فـي التاريخ أكثر مما هو مكتوب له انظروا إلى الاستعمار، كيف انتهى فـي جنوب شرق آسيا وفـي الشرق الأوسط، من كان يظن فـي بداية القرن الماضي ان هذا الاستعمار، كان سينتهي؟) وأكد لي كوان يو ان لكل دولة طابعها الخاص وحياتها الخاصة بعيدا عن تأثير الدول البقية، معتبرا ان الصين طورت اقتصادها معتمدة على النموذج الروسي. غير انها حدثت هذا النموذج الذي يختلف من دولة إلى أخرى.
ونجحت بكين فـي تحديث البنية التحتية لاقتصادها عبر اعتتماد هذا النموذج الشيوعي المتطور وستكون خلال 10 إلى 15 سنة القوة الاقتصادية الأولى فـي العالم، لكن ليس على حساب الولايات المتحدة أو اوروبا.
واعطى لي كوان يو مثالا على تقدم الاقتصاد الاميركي ايضا من الناحية التكنولوجية والتقنية، معتبرا ان المشكلة الاساسية للصين تتمثل فـي الانفجار السكاني، خصوصا ان مواردها اقل من عدد سكانها.
وانتقد باني نهضة سنغافورة الحديثة الشروط الاميركية (او النموذج الاميركي للاقتصاد العالمي) بفتح الاسواق وتغذية التجارة الحرة.
ونصح الدول الصغيرة. كالكويت وسنغافورة، بالاعتماد على النفس، قائلا: (الجيران غير المناسبين يعلمونك الاعتماد على نفسك).
وعن النظام السياسي الذي يجب ان تعتمده الدول لبناء اقتصاد قوي، اعتبر لي كوان يو ان هذا النظام ليس مهما (ان كان ديموقراطيا او دكتاتوريا)، بل الاهم هو تشجيع الشعب والافراد على العمل لمصلحة البلاد، والبلاد فقط، وتغذية المواطنية فـي حياة الافراد تبقى اساسية لبناء شعوب متحضرة.
وشدد على ضرورة (اكل كل ما فـي الصحن، لا نصفه ورمي النصف الآخر)، بمعنى ان الدول عليها استغلال الموارد البشرية والطبيعية بشكل كامل لتحقيق النمو المتوازن والصحي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق